كيف تصنع الحكومات الفاسدة جيوشا من المجرمين ؟

(دراسات في علم النفس الاجتماعي تبحث عن جواب)

كيف يمكن لأشخاص عاشوا حياة طبيعية وفي كامل صحتهم النفسية ان يتحولوا الي مجرمي حرب وقاطعي طريق ومنتهكي حرمات؟ كيف يمكن لسلطة عليا ان يكون لها تاثير قوي بحيث تجعلهم يقومون باشياء تخالف ضمائرهم ، دينهم ، وما تربوا عليه منذ نعومة اضفارهم؟ اسئلة عديدة حيرت ذهن العالم ستانلي ميلجرام عندما حاول ان يضع تفسيرا لجرائم النازيين ضد الانسانية .

في الستينات والسبيعنات من القرن العشرين قام العالم ستانلي بتجارب أطلق عليها في علم النفس الاجتماعي ” تجارب ميلجرام ” محاولا ان يصل الي تفسير لتلك الطاعة العمياء لمراكز القوة ، وهل النفس البشرية الخيرة السوية يمكن ان تقاوم قوى الشر المسيطرة ؟ تتلخص التجربة في ان قام الباحث بالاعلان في احدي الصحف عن حاجته لمتطوعين لإجراء تجربة لقياس أثر العقاب عل التعلم وطبعاUntitled لم يكن ذلك هو الهدف الحقيقي للتجربة، وإنما كان الهدف الحقيقي قياس مدي استجابة المشارك لأوامر المشرف. كانت عينة البحث عشوائية ومتنوعة من حيث الثقافة والعمر و مستوى التعليم. يتم ايهام الشخص المتطوع للتجربة بأختيار عشوائي مع شخص آخر متقدم في السن تم الإتفاق معه مسبقا ويتم إعلام المتطوع أن الطرف الاخر يعاني من مشاكل صحية في قلبه ولكنها ليست خطيرة، يوضع الشخصان في غرفتين منفصلتين ويتم الاتصال بينهما عن طريق استعمال ميكروفون ويزود المتطوع باعتباره سيلعب دور المعلم في التجربة  بلوحة تحكم لمولد للشحنات الكهربائية بقوة متزايدة تبدا من 30 الي 450 فولت بهأيفترض ان يكون موصولا بجسد المتعلم، تقضي التجربة بأن يسرد المعلم أربع مفردات ، ثم يقول مفردة خامسة و يطلب من المتعلم ان يختار المفردة الملائمة من المفردات الرابعة  للمفردة الخامسة حسب ترتيبها أ ، ب ، ج او د .  وعندما يجيب المتعلم اجابة صحيحة ينتقل المعلم الي السؤال التالي ، وعندما يجيب المتعلم اجابة خاطئة يخبره المعلم بانه سيتلقي صدمة كهربائية بقوة وقدرها كذا ثم يضغط زر الصدمات في الجهاز الموجود أمامه. في حقيقة الأمر لم تكن هناك صدمات كهربائية و كان كل الأمر مفبركا ، وفي الطرف الاخر لم يكن هناك أحد وإنما كانت اجابات وردود افعال مسجلة لشخص يصرخ من الألم ثم يطلب الخروج من الغرفة الان وأنه لم يعد يستطيع الاستمرار ويقوم بالضرب على الجدار الفاصل بينه وبين المشارك ، ثم مع استمرار التجربة يختفي الصوت تماما و كأن المتعلم قد فقد وعيه أو مات . وعند تردد المشارك في الاستمرار كان المشرف على التجربة  يحاول تذكير المتعلم بقواعد التجربة وشروطها مستحثا اياه في الاستمرار حتى النهاية وفق التسلسل التالي:

ـ الرجاء الاستمرار.
ـ الاختبار يتطلب منك أن تستمر، استمر رجاء.
ـ من الضروري أن تستمر.
ـ ليس لديك خيار، يجب عليك الاستمرار.

إذا ظل المشارك عند رغبته في التوقف بعد ذلك، يتم وقف الاختبار، وإلا فإن قيامه بتوجيه الصعقة ذات الشدة 450 فولت يعتبر جرس النهاية للاختبار، ومع تنفيذ المشارك لها يتم التوقف .

قبل القيام بالتجارب قام ميلجرام باستطلاع للرأي لمجموعة من الخبراء وعلماء النفس لتوقع نسبة الاشخاص الذين سيتسمرون في اجراء الاختبار حتى النهاية ، وقد اجمع الخبراء على ان النسبة لن تتجاوز 3%  ولكن النتائج التي توصل اليها كانت مفاجاة ومثيرة للدهشة والاستغراب . بدأ بعض المتطوعين في التشكيك في مغزي الاختبار عند مستوى 135 فولت، لكنهم استمروا بعد أن تلقوا تطمينات تعفيهم من أي مسؤولية. بعضهم كانوا يضحكون بانفعال شديد لدى سماعهم صرخات الألم الصادرة عن المتعلم !! لقد استمر الجميع في التجربة  حتى مستوي 300 فولت قبل اعلانهم عن أي رغبة حاسمة في التوقف عن الاختبار  رغم كون الكثير منهم لم يكن مرتاحا و أبدى شكوكا تجاه الاختبار ، ووصل 65% من من المتطوعين الي نهاية الصعقة الكبرى 450 فولت . تم اجراء نسخ عديدة من الاختبار في مختلف بقاع العالم و قد ادت الي نتائج متشابهة .

يقول مليجرام:  ” النتائج كما تابعتها في المختبر مقلقة، إنها ترجح أن الطبيعة البشرية غير جديرة بالاعتمادعليها لتبعد الإنسان عن القسوة والمعاملة اللاإنسانية، عندما تتلقى الأوامر من قبل سلطة فاسدة. نسبة كبيرة من الناس مستعدون لتنفيذ ما يؤمرون دون أخذ طبيعة الأمر بعين الاعتبار، وبدون حدود يفرضها الضمير، مادامت الأوامر صادرة عن سلطة شرعية. إذا تمكن في هذا الاختبار مشرف مجهول، من أن يوجه الأوامر لمجموعة من البالغين لقهر رجل في الخمسين من عمره، وإخضاعه لصعقات كهربائية مؤلمة رغم احتجاجاته ومرضه لا يسعنا إلا أن نتساءل عما تستطيع الحكومات بما لها من سلطات أوسع بكثير أن تأمر به !!

تجربة اخرى مشابهة قام بها العالمان تشارلز شيريدان و ريتشارد كينج لاعتقادهم أنه ربما بعض المشاركين في تجربة ميلجرام  أحسوا بان التجربة عبارة عن خدعة و ذلك بان قاموا بإعادة التجربة مع ضحية حقيقية هذه المرة ، حيث قاموا بتعريض جرو صغير لصدمات كهربائية ، طبعا لم تكن الصدمات متزايدة وانما تم ايهام المشاركين بانها متزايدة ، و ذلك كجزء من متطلبات اجتياز اختبار لأحد المقررات يقتضي من مجموعة من الطلبة فعل ذلك ، وجدوا ان 20 مشارك من أصل 26 أكملوا التجربة حتى النهاية ، والستة الذين لم يستمروا كانوا جميعا ذكورا ويمثلون 46% من نسبة الذكور المشاركين في التجربة ، في حين استمرت جميع الطالبات و البالغ عددهن 13 طالبة بنسبة 100%  حتي نهاية التجربة رغم توترهن وانفعالهن بل وبكاء بعضهن !!!؟

ورغم الجدل الدائر حول اخلاقية مثل هذا النوع من التجارب ، حيث انها قد تؤثر على المشاركين فيها عند علمهم بالغرض الرئيسي منها ، وتعتبر غير مقبولة الآن و لايسمح بتكرارها نظرا لتعارضها مع اخلاقيات البحث العلمي ، الا انها تكشف جانبا بشعا من تلك النفس الشريرة التي تعيش في داخل كل واحد منا. لعل ذلك يعطينا تفسيرا لتلك الآلية العجيبة التي تجعل شعوبنا العربية تسحل بأيدي ابناءها في جيوش الحكومات ، ولعل ذلك يطرح سؤالا حرجا ، ماذا لو ان الثوار و طالبي الحرية وقعوا تحت سيطرة سلطة فاسدة ، فهل سيفعلون مثل ما فعل من سبقهم !!؟

روابط : 

Milgram. S (1963) Behavioural Study of Obedience. Journal of Abnormal and Social Psychology, 67, 371-378.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.