الحاج خيرالله يفكر بجدية في أن يودع حياة البداوة و الترحال ، إنه لم يعد شابا ، و ها هي صحته تتناقص يوما بعد يوم ، ولم يعد يقوى على الرعي ، و لكن ما الذي يمكن أن يقوم به و قد أفنى شبابه في البراري خلف قطعان الماشية ، إن الأمر يحتاج إلي تفكير و حسن تدبير .
أولا يجب أن يبيع ما لديه من ماشية ، إن ذلك سيجمع لديه مبلغا من المال ، ثم سيستقر في إحدى القرى ، و بعد ذلك ما الذي سيفعله ؟ المال سينفد بمرور الوقت .
وقف على التلة المجاورة للقرية في ذلك المساء الخريفي الدافئ ، و أطلق لبصره العنان ، يراقب أهل القرية العائدين من رحلتهم من دكان القرية المجاورة ويتأمل بيوت القرية الصغيرة و قد كساها غروب الشمس لونا ذهبيا. بدا كأنه يراها للمرة الأولى ، بدت في عينيه جميلة و هادئة ، و ليس كما كان يراها من قبل موحشة كئيبة ، سبحان الله ، من كان يتوقع في يوم من الأيام أن الحاج خيرالله سيهجر النوم في الخلاء و حياة الترحال ، لينام تحت السقوف .
لابد من مخرج ، كيف سيستثمر أمواله ؟ إن سكان القرية يذهبون للقرية المجاورة لشراء حاجياتهم من الدكان الموجود هناك ، فلماذا لا يكون لهم دكان في القرية ؟
منذ الآن سيكون في القرية دكان الحاج خيرالله ، و كانت الدكاكين في ذلك الوقت تبيع كل شئ من مواد تموينية ،عطارة ، وقود ، معدات حياكة ،أقمشة ، وكل ما يحتاجه أهل القرية يمكن للبقال أن يعرضه للبيع في دكانه .
يا سلام ، الدكان على ما يرام ، البيع والشراء في أحسن الأحوال ، وأهل القرية سعداء بدكانهم الجديد ، وقد وفر عليهم مشقة الذهاب للقرية المجاورة ، والحاج خيرالله تغمره الغبطة و السرور ، عمل مريح ، يقضي نهاره أمام الدكان ، يتحدث مع أهل القرية ، يعد الشاي ، و يبيع و يشتري ، وما إن تميل الشمس للمغيب حتى يقفل دكانه و يعود أدراجه إلي داره .
و في مساء أحد الأيام أقفل الحاج خيرالله دكانه و اتجه إلي مسجد القرية ، وبعد صلاة المغرب خرج متجها إلي بيته، تناهي إلي سمعه صوت أحدهم يناديه، أدار رأسه متطلعا خلفه ليرى شبحا متجها نحوه ، لقد كان أحد الأهالي يريد أن يشتري قليلا من ( الصبر) من الدكان ، و هو مادة عطرية لها استخدامات شعبية مختلفة .
عاد معه إلي الدكان ، لكن الظلام كان قد اشتد ، و كان لابد من إضاءة النور الذي لم يكن إلا ( فنارا ) قديما متآكلا ، يعمل بالكيروسين ، و ناوله ما يريد من ( الصبر ) و في غفلة منه نسى أن يطفئ الفنار و أغلق المحل و عاد إلي بيته يتثاقل في مشيته ، و قد غالبه النعاس .
و في هزيع الليل ، استيقظ الحاج على طرق عنيف على باب الدار ، لقد كان الدكان يحترق.
و حول الدكان المحترق تجمع أهل القرية ، في حين كان الحاج خيرالله يضرب كفا بكف و يتحسر على ما ضاع و قد تملكه الجزع ، كانت حناجر أهل القرية تصدح بكلمات المواساة ( راح سوك ) ، ( وسع بالك ) ، في حين كان شيخ القرية يربت على كتفه و هو يقول : الصبر ، الصبر . نظر إليه الحاج خيرالله و بكلمات كلها حسرة قال : يا شيخ ، الصبر حرق الدكان !
فصارت العبارة مثلا يطلق على كل عمل لا يفيد معه الصبر .